قد يكون طموح البعض بخلق منطقة عربية آمنة ومستقرة لتأمين بيئة اقتصادية مناسبة لمشاريع وإستراتيجيات اقتصادية قادمة، وقد تكون الخروقات الكبرى بالأمن العربي الناجمة عن جيوش استقرت على بعض الجغرافية العربية، وقد يكون الأمل بأن التموضعات الدولية وتعددية القطبية العالمية الجديدة التي بدأت تترسم على السياسة العالمية، كلها أسباب دفعت بالنظام العربي لنهج طريق آخر في التعاطي مع بعض الملفات الساخنة التي مزقت العرب في العقد الأخير، ومنها القضية السورية بكل ما تتضمنه من تعقيدات وتشابكات.

لكن مخرجات القمة العربية في جدة التي ظهر عليها الاستعجال حتى في الأوقات المخصصة لكلمات رؤساء الوفود، لم تستطع أن تجد مخرجاً لأي من الاستعصاءات العربية، أو الملفات الساخنة التي تعصف بالأمن والوجود العربي، فلا مشكلة اقتتال البرهان مع حميدتي في السودان حُلت، ولا الصراع على السلطة في ليبيا توقف، ولا القتال في اليمن انتهى وأُوجدت له الحلول، ولا قضية السوريين الملتهبة وجدت لها مساراً يخفف من وقعها على السوريين، ويعيدهم لديارهم، بل لم يتفق العرب على وجهة نظر واحدة إزاء القضايا اللافتة في العالم، وحتى دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كضيف شرف للقمة العربية، قوبلت كلمته في القمة برفع سماعات الترجمة ورفض الاستماع من قبل وفد نظام الأسد.

صحيح أن الدعوة العربية لبشار الأسد لم تكن مجانية وسبقها حراك دبلوماسي عربي، تخلل اجتماعاته شروط مسبقة وجملة من الأسئلة العربية والإجابات الأسدية، تضمنت السؤال عن مصير اللاجئين والبيئة الآمنة المطلوبة لتأمين عودتهم؟ وماذا عن تصنيع وترويج وتهريب المخدرات والكيبتاغون التي جعلت من دمشق عاصمة جديدة لتلك التجارة عبر دعمها ورعايتها؟ وماذا عن وجود خمسة جيوش أجنبية على الأرض السورية وكيفية إخراجها، ومتى ستخرج؟ وبسؤال يتضمن كل ما سبق، ماذا عن تطبيق القرار 2254؟

في لقاء على إحدى الفضائيات العربية الكبرى مع نائب وزير خارجية أسد أيمن سوسان وطرحت فيه المراسلة معظم الأسئلة السابقة، كانت الإجابات واضحة وجلية ولا تحتمل سوء الفهم، بأن سوريا قامت بكل ما عليها، وأنها قدمت كل شيء، وغير مستعدة لتقديم المزيد، وأن عودة اللاجئين تحتاج لأموال العرب، وأن البنية التحتية بحاجة لجهود إعمار العرب، وأن العرب هم من بادروا بالخطأ اتجاه سوريا وعليهم تصحيح تلك الأخطاء، وتأكيداً لكل ما قاله “سوسان” عاد رئيس النظام في دمشق ليؤكد تلك الثوابت ويحدث العرب عن تغير الأحضان للضرورات، وأن ما يطلبه العرب هي عملية تدخل بالشؤون الداخلية وعليهم الانصراف عنها والاهتمام باستعادة قرارهم المسلوب من الغرب الفاقد للأخلاق، ثم أراد نظام الأسد تأكيد منهجه فكان سؤال مراسلة الإخبارية السورية التابعة للميليشيا “ربى الحجلي” لكل من أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط ووزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان في المؤتمر الصحفي الذي أعقب القمة العربية في جدة، حيث تضمن سؤالها إهانة للعرب ووصفهم بفاقدي القرار وانصياعهم للغرب، وأن عودة سوريا للجامعة العربية قد أعادت لهم قرارهم المستقل وفكت القيد عن معاصمهم، وأن عودة سوريا هي بمثابة تصحيح لأخطاء العرب خلال العقد المنصرم، وأن الجامعة العربية أصبحت غير موجودة في وجدان الشارع العربي والعرب، فاستحقت رداً قاسياً من أمين عام الجامعة العربية.

تلك الأجواء من داخل قاعة القمة العربية، وما سبقها في اجتماع وزراء الخارجية العرب، وما أعقبها من لقاءات، وفي المؤتمر الصحفي، تعكس مدى تفكك النظام العربي، خاصة مع مغادرة أمير قطر للقمة العربية قبل انتهاء فعالياتها، والموقف القطري الواضح والثابت والذي أعطى فرصة للعرب بعدم العرقلة للسير بخياراتهم اتجاه نظام الأسد والتطبيع معه، لكنه يرفض الدخول بهذا المسار، ويفضل الانتظار ومراقبة المتغيرات ومن ثم يتخذ القرار النهائي بناءً على تجاوب نظام أسد، أيضاً كان لافتاً بكلمات رؤساء الوفود بين من هلل ورحب بعودة سوريا للجامعة العربية، وبين أكّد على تطبيق القرار 2254 كشرط وحيد للقبول بعودة سوريا للجامعة العربية.

في إطار المواقف الإقليمية والدولية كان الهجوم على تركيا واضحاً في خطاب رأس النظام وببعض مفردات كلمة الأمين العام للجامعة العربية، لكن الغرب كان أكثر وضوحاً في رده على الأحضان المجانية الممنوحة للأسد في القمة العربية، فقال جيم ريش عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي عبر تغريدة له: اجتماع القمة العربية اليوم هو الأول منذ 12 عاماً بحضور مجرم حرب هو الأسد، والسوريون ومئات الآلاف ممن قتلوا أو اختفوا يستحقون أن يكون هناك إجراء يحاسب بشار الأسد وليس التقاط الصور معه!!.

أيضاً، جو ويلسن رئيس اللجنة الخارجية في الكونغرس الأمريكي وصف اجتماع العرب بالمقرف وتوعد المطبعين بعواقب وخيمة لاحتضانهم الأسد، حيث قال: اجتماع القمة العربية هذا الصباح كان مقرفاً، والعناق الدافئ للقاتل بشار الأسد سيقابل بعواقب وخيمة، ونعمل على ضمان تطبيق قانون مكافحة التطبيع مع الأسد وسيتم نقل القانون بسرعة لمجلس الشيوخ.

الموقف الغربي الرافض لإجراءات العرب رغم تبرير النظام العربي بأن التطبيع مع الأسد شأن داخلي يخص العرب وحدهم، وأن الحلول الغربية لم تكن موجودة على مدار أكثر من 12 عاماً سابقاً، لكن الموقف الغربي الرافض للتطبيع مع الأسد برز أيضاً بما نقله أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية الذي تحدث عن توقع بإلغاء الاتحاد الأوروبي لاجتماع كان مقرراً مع وفد من الجامعة العربية احتجاجاً على أحضان العرب لبشار الأسد.

المراقب لتصريحات الأسد ووفده للقمة العربية في جدة والاجتماعات التي سبقتها في العاصمة الأردنية عمّان وفي اجتماع وزراء الخارجية الذي يسبق القمة، يدرك أن نظام الأسد يعتبر نفسه منتصراً، وأن موقفه كان الصواب بخلاف العرب الذين ساندوا المؤامرة عليه، وأنه قادم لجني الأموال، وأن الخطوات المطلوبة منه عربياً لن يُستجاب لها، لأنها تعبر عن تدخل بالشؤون الداخلية السورية، وأن الوجود الإيراني وكل الميليشيات الأجنبية التي دعاها الأسد للأرض السورية ستبقى لأنها تخضع لقرار سيادي سوري لا حق للعرب بالتدخل فيه، أما إذا أردتم وقف تصنيع وتهريب المخدرات والكبتاغون فعلى العرب دفع الأثمان المادية للتعامل مع هذا الملف.

ما بدأت به القمة العربية في جدة أمست عليه دون تغيير ودون حلحلة لأي من الملفات الساخنة، صحيح أن ما يدور خلف الجدران وفي كواليس الاجتماعات المغلقة غائب عن إدراك الشارع العربي والسوري بشكل خاص، لكن الشعب السوري ما زال مصمماً على متابعة الطريق لإدراكه العميق أن الحل السوري يبدأ بالقرار 2254 وتشكيل هيئة الحكم الانتقال كاملة الصلاحيات، وأن عودة اللاجئين لا تحل بتبادل الأحضان بشكل أساسي بل بزوال الأسباب التي دفعتهم لمغادرة سوريا وأهمها أجهزة قمع الأسد العسكرية والأمنية، وبخروج كل الميليشيات التي استباحت الدماء السورية.

شاركها.
Exit mobile version